التقوى.. التقوى
أهم درس يتعلمه الصائمون العابدون من هذا الشهر الفضيل تقوى الله عزَّ وجل في السر والعلن قال جل من قائل:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
.( آل عمران/102-104 )
– (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) : عن ابن مسعود أنه قال: تقوى الله أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر. رواه ابن كثير في سنده عن ابن مسعود وقال: هذا إسناد صحيح موقوف.
وعن ابن عباس أنه قال: هي أن يجاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم.
– ( وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ): أي حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه ومن مات على شيء بعث عليه فعيإذا بالله من خلال ذلك.
– ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً ): قال ابن جرير في تفسير هذه الآية:
“ تعلقوا بأسباب الله جميعاً يريد بذلك تعالى ذكره: وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله… وأما الحبل فإنه السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة ولذلك سمي الأمان حبلاً لأنه سبب يوصل به إلى زوال الخوف والنجاة من الجزع والذعر”([1])
– (وَلاَ تَفَرَّقُواْ): قال ابن كثير:
” أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف كما في صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط لكم ثلاثاً: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا وان تناصحوا من ولاه الله أمركم ويسخط لكم ثلاثاً: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال). وقد ضمن الله لهم العصمة من الخطأ عند اتفاقهم كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضاً.
وخيف عليهم الافتراق والاختلاف فقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة منها فرقة ناجية إلى الجنة ومسلمة من عذاب النار وهم الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه”([2]).
واذكروا أيها المؤمنون ما أنعم الله به عليكم من الألفة والاجتماع على الإسلام… وقد كنتم قبل هذه النعمة التي منَّ بها عليكم كفاراً متخاصمين متناحرين يقتل بعضكم بعضاً لأتفه الأسباب وأحطها فالحرب بين الأوس والخزرج استمرت عشرين ومائة سنة وهم إخوان لأب وأم وكانت بدايتها بسبب قتل مولى لمالك بن العجلان الخزرجي… ثم إن الله عز وجل أطفأ هذه الأحقاد والإحن بالإسلام وألف بينهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
– (وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ): وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه وليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم فتكونوا من الخالدين فيها فأنقذكم الله منها بالإيمان الذي هداكم إليه.
– ( وَلْتَكُن): أمر من الله سبحانه وتعالى وظاهر الأمر يفيد الإيجاب.
– (مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ): من أقوال المفسرين في تأويل هذه الآية:
ولتكن منكم أيها المسلمون جماعة – وسميت بذلك لأنها يؤمها الناس: أي يقصدونها ويقتدون بها- تدعوا إلى ما فيه صلاح الدين والدنيا وتأمر بكل معروف سواء كان واجباً أو مندوباً وتنهى عن كل مكروه يقرب من النار ويبعد عن الجنة… وهؤلاء هم الفائزون في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ومن للتبعيض وتقدير الكلام: ولتكن منكم جماعة مؤلفة من أفراد لهم رابطة تضمهم ووحدة يكونون بها كالأعضاء في بنية الشخص والمراد بكون المؤمنين مخاطبين بتكوين هذه الأمة لهذا العمل هو أن يكون لكل فرد منهم إرادة وعمل في إيجادها وإسعادها ومراقبة سيرها بحسب الاستطاعة حتى إذا رأوا منها خطأ أو انحرافاً أرجعوها إلى الصواب.
ويدخل في عمل هذه الأمة: الأمور العامة التي هي من شأن الحكام وأمور العلم وطرق إفادته ونشره وتقرير الأحكام وأمور العامة الشخصية ويشترط فيها العلم بذلك ولذلك جعلت أمة وفي معنى الأمة القوة والاتحاد وهذه الأمور لا تتم إلا بالقوة والاتحاد فالأمة المتحدة لا تقهر ولا تغلب ولا تعتذر بالضعف يوماً ما فتترك ما عهد إليها وهو ما لو ترك لتسرب الفساد إلى جموع المسلمين.
وقد كان المسلمون في الصدر الأول لا سيما على عهد الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما على هذه الطريقة فقد كانت خاصة الصحابة الذين عاشروا النبي صلى الله عليه وسلم وتلقوا عنه متواصين متكاتفين يشعر كل منهم بما يشعر به الآخر من الحاجة إلى نشر الإسلام وحفظه ومقاومة كل ما يمس شيئاً من عقائده وآدابه وأحكامه ومصالح أهله وكان سائر المسلمين تبعاً لهم.
فوجود هذه الجماعة واجب وإن كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً على أفراد الأمة الإسلامية قدر الاستطاعة كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من رأى منكم منكراً فليغير بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”([3]).
وقفت ذات مرة وأنا أتلو هذه الآيات الجامعة الشاملة التي كنت قد حفظتها منذ أمد بعيد عند قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }.
وسألت نفسي: لماذا كان المدخل لهذه الآيات الأمر بتقوى الله حق التقوى؟! ولمإذا تكرر ذلك التقوى والأمر بطاعة الله ورسوله في آيات أخرى كثيرة؟!
وكان لابد من البحث عن جواب لهذا السؤال في كتب التفسير المعتمدة وعندما رجعت إليها لم أجد جواباً شافياً لهذا السؤال الذي يفرض نفسه علي بإلحاح وكل الذي وجدته تفسير قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ } وقد نقلت أهم أقوالهم في ما مضى.
وعدت أستعرض أحداث التاريخ وأتبين من خلالها أحوال الذين فرقوا دينهم وبدلوا نعمة الله عليهم وأحلوا أقوامهم دار البوار وانتهيت من هذا الاستعراض إلى النتائج التالية:
– اختلف اليهود والنصارى من بعد ما جاءتهم البينات من ربهم ولم يكن الجهل سبباً لهذا الخلاف وإنما كان سببه فراغ قلوبهم من تقوى الله.
– أوباش الأمصار الذين حاصروا منزل الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه وقتلوه وهو يتلو القرآن كانوا يفتقدون التقوى والخوف من الله سبحانه وتعالى ولم يكن بينهم أحد من السابقين الأولين.. وكذلك كان حال الذين قتلوا ابن بنت رسول الله – الحسين بن علي – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
الذين قسموا العالم الإسلامي وهو في أوج قوته وعزته إلى ممالك ودويلات صغيرة ذليلة ولم يجدوا بأساً من الاستعانة بأعداء الإسلام من النصارى واليهود والوثنيين ضد إخوانهم وأبناء دينهم… هؤلاء كانوا عبيداً لشهواتهم وأطماعهم ومن اجلها كانوا يستبيحون كل شيء. ولا يزال واقعنا المعاصر يزخر بأمثال هؤلاء الذين يكرهون التقوى والأتقياء ويمقتون الورع والعمل الصالح.
وإذن: فالعاملون من أجل وحدة الأمة الإسلامية اليوم إذا كانوا يريدون الله والدار الآخرة فعليهم أن يبدأوا بعلاج النفوس والقلوب امتثالاً لقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).
فإذا تغيرت النفوس وامتلأت القلوب بالتقوى تغير كل شيء في حياتنا وإذا غفل الداعون للإصلاح عن أهمية إصلاح النفوس فسوف يسمعون كلاماً جيداً من مختلف الجهات المتنازعة أما الأعمال والنتائج فتسير في اتجاه معاكس… وإن من تقوى الله سبحانه وتعالى:
– أن نطهر قلوبنا من الغل والحقد ونفوسنا من الرياء والنفاق وألسنتنا من الفحش وكل قول بذيء.
– أن يعتقد العاملون إلى الله أنهم إخوة وأن جماعاتهم وسائل وليست غايات.
وليس من تقوى الله:
– إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا وترويج الأكاذيب والافتراءات.
– أن يكون بأسنا بيننا وأن نتصارع على حطام الدنيا وان يكون ذلك كله على حساب معركتنا مع أعداء الله.
(1) تفسير ابن جرير الطبري.
(2) تفسير ابن كثير: 1/360 دار الفكر.
(3) انظر تفسير المنار: 4/ 36 محاسن التأويل للقاسمي: 4/920 وابن كثير: 1/391.