مجددون معاصرون – سيد قطب 1-2
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
الحديث عن سيد قطب رحمه الله حديث عن رجل من أهم رجالات العصر الحديث وقد ترك أثرًا بعيدًا في جميع بلاد الدنيا وإذا رأيتم رجلاً قد اختلف الناس بأمره، منهم من يتعرّض له بالنقد والهجوم وما إلى ذلك، ومنهم من يذكره بما هو أهل له من خير، فاعلموا أن هذا الرجل ليس رجلاً عاديًا، وليس رجلاً من الرجال الذين تأثيرهم في المجتمع قليل.
هذا الرجل بدأ العمل الدعوي قبل حوالي ستين عامًا تقريبًا، وما زال الناس عندما يقرأون كتبه ويقفون على العبارات التي كتبها يتعجّبون لهذه العبارات. يتعجبون لهذه العقلية –إذا كانوا منصفين-، كيف فتح الله عليه بالتحفيظ، كيف فتح الله عليه بموضوعات متعددة، وغيره من أقرانه وممن جاء قبله وممن جاء بعده بعضهم لا تُقرأ كتبهم، وبعضهم تموت كتبه بموته لكن هذا الرجل له شأن آخر.
صلتي بسيد قطب وأعني صلتي بشخصيته وكتبه بدأت عام 1953 من القرن الماضي وعندما قامت الثورة ثورة 1952، كان يُذكر اسم سيد قطب كثيرًا وكانت المكتبات فقيرة، هذه الكتب التي ترونها لم تكن موجودةً. فالكتب الموجودة إما كتب تراث وهي قليلة عند قلة من أهل العلم، وأما المكتبات الخاصة في البيوت فلم تكن موجودةً.
أردت أن أقرأ عن هذا الرجل العظيم، فوجدت كتابًا، والله لا أدري هل وجدته في الثانوية أو وجدته في مركز الإخوان، حتى مركز الإخوان لم يكن فيه مكتبة، إنما كتب قليلة. والكتاب الذي وجدته هو كتاب “مشاهد القيامة في القرآن”، ومن سوء حظي أن عمرى حينذاك كان خمسة عشر عامًا، لم أقرأ من الكتاب إلا الصفحة الأولى وصفحات قليلة من الكتاب، وكانت الصدمة الأولى التي تلقيتها أن المصريين سواء سيد قطب أو طه حسين أو أي كاتب مصري، يستخدم عبارات ليست معروفةً إلا عند أهل مصر. فقد كان يخاطب أمه في بداية الكتاب وهي تفطر وتقرأ القرآن، وأنها كانت تنظر من وراء (..) مفردة لم أفهمها فسألت عنها أخوة مصريين.
أغلقت الكتاب ولم أفهم منه شيئًا، إذ أن الكتاب صعب خاصة على طالب في مثل هذا السن ولذا تركت الكتاب. وعقدت العزم على أن أصبح مثقّفًا، فأخذت كتابًا من كتب محمد الغزالي وهو “من هنا نعلم”، وهو يردّ بهذا الكتاب على خالد محمد خالد الذي ألّف كتابًا سمّاه “من هنا نبدأ”، فردّ عليه محمد الغزالي ردًّا لطيفًا واضحًا، واستطعت أن أفهمه، والغزالي في كتابته أديب وذو عبارة قوية وسهلة، يفهمها من يقرأها.
ثم كان سيد قطب رحمه الله يكتب أبحاثًا جُمعت في كتاب اسمه “دراسات إسلامية”، قدّم له الأستاذ محب الدين الخطيب بمقدّمة جميلة، وكان سيد رحمه الله ينشر أبحاثه أو محاضراته على شكل كتيبات صغيرة، ومن أهم الأبحاث التي قرأتها له “محطّم الطواغيت”، ثم توالت كتب سيد قطب رحمه الله.
دخل سيد قطب السجن عام 1954، وأصبح حديث الناس، ومن الطبيعي أن قراءتي لكتب سيد ازدادت سنةً بعد سنة. فلقد وقفت على كتابه “طفل من القرية” الذي يعطي صورةً عن الرجل وشخصيته، يتحدّث عن حياته التي عاشها في القرية وفي مقدّمة الكتاب يقدّم إهداءه لطه حسين الذي كتب عن حياته في كتابه “الأيام” ووصف حياته في القرية والأزهر وانتقاله إلى الجامعة المصرية ثم عن دراسته في فرنسا وما أحاط ذلك كله من أحداث، لكن القرية غير القرية، والجيل غير الجيل.
نُشر كتاب طفل من القرية عام 1945 ولمّا يتحدّد اتجاه سيد قطب الإسلامي، لكنه كتاب ممتع يقدّم صورةً عن شخصية سيد قطب وما كان يفكّر به قبل الانتساب للدعوة، فأنت أمام رجل يصوّر الأمور في بلده تصويرًا جيّدًا، كيف كان يدرس في الكتّاب، وطريقة الشيوخ في الكتّاب، وهي طريقة سيئة، انتقدها كلّ من كتب عنها. وكيف أحب الانتقال إلى المدرسة، وقد تأسست في عام على الأرجح هو 1913، ولو قلنا أن تاريخ مولد سيد قطب هو 1906 أو 1907 وهي نفس مواليد أعلام آخرين مثل حسن البنا وعلي الطنطاوي ومالك بن نبي ومصطفى الزرقا، فيكون الأرحج أنه انتسب إلى المدرسة عام 1913.
لا أريد أن أتحدث عن الكتاب، لكن لا بد من الحديث عما يصوره هذا الكتاب من جوانب شخصيته وحياته في الكتّاب وحفظ القرآن الذي حفظه في فترة قياسية، وكيف قطع الطريق على أبيه في إرساله إلى الكتّاب بحجة حفظ القرأن، وكذلك تصويره لحياة الناس في القرية، وهي قرية موشه في الصعيد، والتي تشبه القرية التي عشت فيها من حيث تفشي الجهل والأخطاء وبدائية عقول الناس، وتأثر الناس بقضية الجن والعفاريت، وحديثه عن الصوفية والشيخ المجذوب المجنون الذي صورّه أحسن تصوير، وحديثه عن العمّال الذين كانوا يأتون للعمل في الحصاد والأجرة القليلة التي كانوا يأخذونها وعاطفته نحوهم، وشعوره بالظلم الواقع عليهم رغم صغر سنه، لكن هذه المعاني كلّها ستجدها فيما بعد في كتابه “العدالة الاجتماعية” الذي ألّفه عام 1949 أو 1948، هذه الأفكار كانت تعيش مع هذا الطفل، اهتمامه بالناس وبشؤون الفقراء وضرورة إقامة العدل من قديم.
انتهت المدرسة، وكان يمكن أن يكون شأن سيد كشأن غيره من الناس، لكن أخوته ولعل أحدهم كان شيخًا في الأزهر، نقلوه إلى القاهرة ليبدأ حياته الدراسية.
ثم فهمنا بعد ذلك أن سيد قطب كان يشتغل في الأدب، وكان من المعجبين بالعقّاد، سبحان الله!، كيف كان معجبًا بالعقاد، مع أنني أعترف أنثقافة العقاد واسعة، لكن شخصيته لا تُحتمل، وكان سيد قطب يدخل في معارك دفاعًا عن العقاد، وكان يكتب في مجلة الرسالة، وأحيانًا المقال الذي يكتبه سيد قطب يضعونه في افتتاحية الرسالة، والرسالة كانت أهم مجلة في البلاد العربية في موضوع الأدب، وكان رئيس تحريرها أحمد حسن الزيّات.
لقد تخرّج سيد قطب من دار العلوم، الذي تخرج منها حسن البنا رحمه الله، وأظن أنهما كانا في مرحلتين مختلفتين، ولم يمر معي أنهما تزاملا في دار العلوم. وبعد تخرّج سيد من دار العلوم عمل مدرّسًا في الابتدائي ثم عمل في التفتيش ثم كان مدير مكتب وزير التربية ثم انتدبوه إلى أمريكا.
وفي أمريكا ظلّ يمثل طفل القرية الذي ينقد الظلم الذي يقع على العمّال، وينقد كذلك الحضارة الأمريكية، ولعل الذين أرسلوه إلى أمريكا أرادوا منه أن يرجع مفتونًا بأمريكا لكنه لم يفعل، هم الذين هاجموه بعد ذلك.
كان سيد قطب رحمه الله مريضًا ويرتاد المستشفيات كثيرًا، حتى وهو في السجن خلافًا لما كان يشيعه خصومه من أنه كان يتمارض، ومن الروايات التي لا أقيم لها وزنًا، أنه وهو في أمريكا دخل المستشفى الذي تحوّل في ليلة من الليالي إلى مكان احتفال كأنها ليلة عيد الميلاد، فسأل سيد عن سبب هذا الاحتفال، ليُجاب أنه ابتهاج بمقتل شخصية في الشرق الأوسط وهو حسن البنا، الذي اغتيل عام 1949، وبعد هذه الحادثة أصبح اسم الإخوان المسلمين وحسن البنا شيئًا مهمًّا عند سيد قطب.
هناك سببان يجعلاني لا أقيم لهذه الرواية وزنًا:
السبب الأول: أنها لم تُذكر في كتبه رغم أنه تكلّم عن حسن البنا في كتابه “دراسات إسلامية”.
السبب الثاني: كلّ من يعرف أوربا وكلّ من يعرف أمريكا، يعلم أنهم جهلة في شؤون بلادهم، 99% من الشعوب الأوربية والأمريكية لا تدرك شؤون بلادها، قد تكون مثل هذه المعلومات متوفرة عند المخابرات الأوربية والأمريكية. إذًا هذه الرواية عندي في الغالب غير صحيحة.
يذكر الإخوان أن حسن البنا اشترى نسخًا كثيرةً من كتاب العدالة الاجتماعية لما طبعه سيد قطب، وهذا إيذان من حسن البنا بتوجيه الإخوان نحو سيد قطب.
كان سيد قطب يشتغل في الأدب من خلال مجلة الرسالة وله حضور إعلامي قوي، فلما عاد من أمريكا وأخذ يتكلم عن فاروق وطغيانه أقبل عليه الناس، وكان ذلك بين عامي 49-50، كان سيد يطلق كلمات قوية مثل: “إن كلماتنا ستبقى عرائس من شموع فإذا متنا في سبيلها دبّت فيها الحياة وانتفضت حيّةً بين الأحياء” ، وكانت كلمات ومقالات سيد تعجب حتى ضباط الثورة ويقبلون عليها وأنهم كانوا كالطلاب له ومنهم عبد الناصر وكانوا يلتقون في بيته، وكان عبد الناصر يخاطبه ويحثه على المضي في هذا السبيل، ويقول له أننا جنودك وأنت أستاذنا، حتى قامت ثورة 1952 التي سميّت ثورة يونيو، في ذلك الوقت لم يكن لسيد قطب أي علاقة بالإخوان المصريين، ولما قامت الثورة اختير مستشارًا في مجلس الثورة وتفرّغ لهذا العمل. ومن خلال عمله في مجلس الثورة لاحظ سيد أن سفير مصر في أمريكا أمريكي الهوى والاعتقاد والثقافة، وكان يحرص على جرّ رجال الثورة نحو أمريكا لنقل الثقافة الأمريكية إلى مصر. وكان يرى أن خط الإخوان في اتجاه آخر من هذا الأمر فبدأ يتقرّب إلى الإخوان ليعملوا معا في الاتجاه الصحيح، وهكذا أصبح سيد من الإخوان بين عامي 52-53.
لم يكن سيد رحمه الله قبل هذا التاريخ مع الإخوان، ومن يقرأ مذكرات الدعوة والداعية وكتبًا أخرى تتكلم عن تاريخ الإخوان، فإنه لن يجد أي ذكر لسيد قطب في أي مؤسسة من مؤسسات الإخوان. لكنه بعد ذلك عمل كرئيس تحرير مجلة الدعوة التابعة للإخوان المسلمين وكانت له كتابات مؤثرة، وكتب مقالات يمتدح قيام الثورة وضباطها.
بعد انتسابه للإخوان المسلمين، زار جامعة دمشق والتقى بشخصيات إسلامية، وحضر مؤتمر القدس سنة 52، وكان الوفد الذي يمثّل سوريا: علي الطنطاوي، عصام العطار، زهير الشاويش، وأديب صالح، وكان لسيد قطب حضور قوي في مؤتمر القدس وكانت له محاضرة.
بالنسبة لي أنا كنت أدرس بذرعا عندما جاء إلى دمشق وجامعة دمشق، وكما سمعت ألقى محاضرةً ، والهدوء من طبيعة سيد في محاضراته ودروسه، ومن يعرف شخصية سيد يستغرب من الفرق بين كلماته التي يكتبها وبين هدوئه في حديثه للناس.
بعد انتسابه للإخوان بقليل بدأت رحلة الإخوان فكان يتوارى عن الأنظار ويكتب عن أمريكية ضباط الثورة، ونستطيع أن نقول أن الإخوان المسلمين على لسان سيد قطب هم أول من حدّد اتجاه الثورة وأنه اتجاه أمريكي.
وهذا الأمر كان يزعج جمال عبد الناصرإلى حدّ كبير بسبب صلته بسيد قطب والذي كان يعلّق عليه آمالاً كبيرة ويفاوضه ليكون أمين عام أو أمين سر جبهة التحرير التي أصبحت بعد ذلك الاتحاد الاشتراكي في نهاية الخمسينات وأوائل الستينات.
فلما اعتقل سيد قطب، ولم يكن له أي علاقة بحادثة محاولة اغتيال جمال عبد الناصر، بل لم يكن له أي علاقة بقيادة الإخوان حينئذ، ولم يكن في مجلس الشورى التابع لها، ولنلق نظرة على سيد قطب قبل دخوله السجن.
لقد قرأت تاريخ الإخوان، ورأيت شخصيات الإخوان الذين عاشوا مع سيد قطب، فسيد كان من القلائل الذين لم يشتغلوا بالخلاف، ومنهم شخص آخر اسمه عبد العزيز كامل من مواليد 1919 أو 1920، صار وزير أوقاف ثم قُتل بعد ذلك، كان خلقه جيّدًا، وقد أخبرني محمد قطب أنهما كانا في صف واحد، كما أن الأستاذ عصام العطار قد أثنى عليه.
الأستاذ عصام العطار عندما جاء عهد الشيشكلي، وقد قيل له أن الشيشكلي يعتقل الناس، والأفضل أن تخرج من سوريا، خرج إلى مصر ومكث سنةً ونصف، عمل خلالها في مكتب الأستاذ عبد العزيز كامل وكانوا جيرانًا في السكن، وذكره بخير كثير. ولقد تمنيت وأنا في الكويت أن ألتقيه وأناقشه لكنه لم يكن يحب الخوض في هذا الموضوع.
إذن سيد قطب لم يشتغل بخلافات الإخوان، والذين يعرفونه ينقلون عنه أن عبد الناصر هو الذي رتّب فتنة الانشقاق داخل الإخوان، وكان أبرز من انشقوا محمد الغزالي، سيد سابق، وصلاح صاحب مجلة الدعوة وأسماء أخرى.
جاء المنشقّون وهجموا على بيت حسن الهضيبي، كان هذا الانشقاق في منتصف عام 1953، وأرادوا أن يجبروا حسن الهضيبي على الاستقالة من الإخوان. يقول سيد قطب: أيقظني علي أمين من نومي في منتصف النهار “القيلولة” وقال أين أنت؟ الإخوان احتلّوا بيت حسن الهضيبي، فنهض من نومه، وطبعًا آل أمين كان ارتباطهم قويًّا بجمال عبد الناصر، لما وصلت بيت حسن الهضيبي لم يكن المنشقّون قد وصلوا بعد، وبالتالي كان واضحًا أن علي أمين وأخاه مصطفى كانا يعرفان ما سوف يحدث وقد دبّر بليل، وقد كان دور سيد قطب دور المصلح الذي لم يتورّط بأي مسؤولية، ثم سيطر المنشقون على المركز، ثم جاء الذين يمثّلون المرشد وجماعته وأخرجوا المنشقّين من المركز وعادت الأمور إلى طبيعتها إلى أن اعتقل الإخوان وسيد قطب، وفي هذه المرحلة لم يشتغل سيد قطب إلا بالعمل النافع.
تحدّثنا فيما مضى عن المرحلة القصير التي عاشها سيد قطب رحمه الله بعد انتسابه للإخوان المسلمين وعن عمله في مجلة الإخوان التي كان يرأس تحريرها. بعد حادثة المنشية –مكان في الإسكندرية- أو مسرحية اغتيال جمال عبد الناصر عام 1954، هي فرصة صنعها جمال عبد الناصر أو ساعد في صنعها، دخل الإخوان السجون، ودخل سيد قطب السجن، الذي يعرف جمال عبد الناصر أنه شخصية مؤثّرة جدًّا، وقد كان يخشاه، فوجّهت له تهمة ومكث في السجن.
في هذه المرحلة التي مكث فيها سيد قطب في السجن، بدأ سيد بنشر حلقات في مجلة المسلمون التي كان يديرها سعيد رمضان بعنوان في ظلال القرآن، لاحظوا سبحان الله كيف يريد الله نشر الخير من حيث لا يعلم الطاغوت.
كان سيد رحمه الله قد تعاقد مع صاحب دار الشروق الذي نشر كتب آل قطب، وكانت تربط سيد مع والد صاحب دار الشروق علاقة.
فقد رفع صاحب دار الشروق دعوة تضرر، وذلك أنه تعاقد مع سيد قطب من أجل كتاب في ظلال القرآن، فحكمت المحكمة باعتماد أن سيد ليس عليه تهمة خطيرة، وحكمت بأن يستمر سيد في كتابة كتابه في “ظلال القرآن”.
أمر آخر غريب، هو أن الغزالي كان هو المسؤول عن الإشراف الديني ومراقبة الكتب، وهو الذي عُرض عليه كتاب “معالم في الطريق” وكتابات سيد قطب الأخرى. ولعلكم تذكرون أن الغزالي من الذين انشقوا عن الإخوان، والمفترض أن يكون في صف جمال عبد الناصر، ولكن ورغم أنه كان ذا وظيفة كبرى في وزارة الأوقاف في عهد الباقوري، إلا أن الغزالي كان يقوم بواجبه الدعوي ولم ينافق عبد الناصر. للأسف بعض المتسلفين إذا اختلفوا مع عالم أو كاتب شطبوا عليه تمامًا، وهذا من ضيق أفقهم واتباع أهوائهم.
لكن الغزالي كان يسمح بنشر هذه المقالات، وكان كتاب معالم في الطريق يعرض في معارض ليبيا ومصر ومن جملة الكتب المهمة الصادرة في هذا العام.
هذا الانتاج من داخل السجن استمر، سجون مصر المعروفة بقساوتها وصعوبتها، كانت كتب سيد تصل إلى العالم الإسلامي، لم ينشغل سيد داخل السجن بالقيل والقال، وعالم السجن عالم آخر، يصقل النفوس، فإما أن يسقط الإنسان بالاختبار أو أن يفوز، وقلة هم الذين يفوزون.
لما دخل الإخوان السجون، كانت قواعد الإخوان طيبة، لكن هناك من دخل الإخوان لا عن قناعة وإن كان لديهم شىء من التدين ولكن ليكونوا رجال حكم، لأن الجو العام كان يوحي بأن الإخوان هم من سيتولون الحكم في مصر، خاصة أن الإخوان تحالفوا مع ثوار يوليو –عبد الناصر وجماعته-. ولكن هؤلاء بدل أن يصبحوا رجال حكم ووزراء ورؤساء او محافظين، صاروا معتقلين في سجون مصر.
كان سيد قطب رحمه الله أمام خليط عجيب من الناس تحت اسم الإخوان المسلمين، فسيد لا يعرف الإخوان كتنظيم إلا بعد 1953، فكلّ أحد يمكن أن يزعم أنه عاش مع الإخوان وصاحب حسن البنا سنة 1928 أو 30 أو غير ذلك، فالعناصر الموجودة غير مرتبطة بتاريخ قديم.
رأى سيد نماذج غير جيدة، رأى من يبايعون جمال عبد الناصر، وتكون بيعتهم بالدم يسيلونها ويكتبون بها بيعتهم. رأى من يعيش حياةً غير إسلامية، ولكن كانت هناك قواعد وقيادات طيبة أيضًا. شعر سيد أن هذا الخليط ليست الصورة التي كان يبحث عنها، فاستمر في بحوثه وكتاباته الدعوية، وكان يجلس إليه أشخاص معيّنون يربيهم على هذا المنهج، بعيدًا عن أجواء الإخوان المعروفة، ولم يكن قصده تشكيل تنظيم أو ما شابه ذلك.
كان تركيزه على الحاجة إلى تصحيح التصورات، وزرع المفاهيم الصحيحة، وأن ينطلق هؤلاء انطلاقة عقديةً صحيحة، فالمعاني الموجودة في كتبه كان يدرسها قلة قليلة من الناس داخل السجن. وكانت أخته حميدة حين تزوره في السجن تأخذ ملازم من “ظلال القرآن” و”معالم في الطريق” لتعرضها على بعض الشخصيات من الإخوان أو غيرهم خارج السجن، وكان منهم حسن الهضيبي رحمه الله.
في هذه المرحلة، كان هناك بقايا تنظيم في مصر، من أبناء المعتقلين أو أقربائهم الذين ليس لهم تاريخ سابق في الإخوان، أو له تاريخ قصير في أواخر العهد الذي اشتغل فيه الإخوان قبل الـ 54.
خلاصة هذا التنظيم، وقد قرأت عنه والتقيت ببعض رؤوسه، وأحسب أنهم كانوا صادقين فيما ذكروه لي، أنهم أرادوا به حفظ العمل الإسلامي بعد أن توقف بعد ضربة عبد الناصر لهم الضربة القاتلة. وبتوقف العمل الإسلامي تردّى الوضع في مصر وكان في غاية العجب. فهم من جهة يريدون استمرار العمل الدعوي، ومن جهة أخرى يريدون الانتقام من جمال عبد الناصر.
كان هؤلاء يبحثون عن شخصية –هذا كان في أواخر الخمسينيات أو أوائل الستينات- يستشيرونها في هذا العمل، ولكن اعتذرت كلّ شخصيات الإخوان.
سيد قطب رحمه الله كانت له نظرة أخرى، فهو يريد استمرار العمل الإسلامي لأنه كان يرى أن الشيوعيين وحلفاء الشيوعيين بدأوا يسيطرون على مصر، وقد بدأت مظاهر التدين تختفي كاللحية والحجاب، ولذلك حُكم على سيد قطب في الـ 65 كمسؤول عن هذا التنظيم، وقصة هذا التنظيم لها تفاصيل أخرى.
اتصل مسؤولو هذا التنظيم بالإخوان المصريين الذين غادروا إلى السعودية، وكان من بينهم سليمان العشماوي مفتش بوزارة المعارف وهو من قدماء الإخوان، ومفتش أخرى بجدة اسمه مصطفى العالم وهم كبار ماتوا رحمهم الله. فاتفقوا معهم على شحن باخرة أسلحة وإدخالها إلى مصر عن طريق البحر من جهة السودان بالنيل، وكان من رؤوس التنظيم رجل اسمه علي العشماوي الذي أعطى أسرار هذا التنظيم للدولة، وربما لسعيد رمضان علاقة بالأمر.
لم يكن لسيد قطب رحمه الله علاقة بهذا العمل وقد كان في السجن، كلّ ما كان يريد ه سيد هو زرع تصورات ومفاهيم بثها كتبه كالظلال ومعالم في الطريق، في صدور الشباب لتكوين قاعدة كان يسميها القاعدة الصلبة.
حدثت ظروف جديدة: تدخل عبد السلام عارف عند عبد الناصر وتم الإفراج عن سيد قطب عام 1964، وأصبح أفراد التنظيم يتردّدون على بيته في حلوان ومنهم علي العشماوي ، وحتى إخوان البلاد العربية يتصلّون بسيد ولم يكن الأمر مفتوحًا تمامًا لأن مخابرات عبد الناصر كانت قويةً. ورغم ذلك فقد كان الإخوان من الخارج يرسلون من يسمع منه وينقل كلامه وأفكاره، التي بدأت تختلف عن أفكار الإخوان القديمة، فقد بدا أن سيد يرفض قضية الانتخابات، والديمقراطية، وكذلك التنظيمات المسلّحة لم تكن واردةً عنده، بخلاف ما يشاع الآن وتروّجه جماعات الجهاد من أن سيد قطب هو قدوتهم وهو أول من قام بتنظيم مسلّح، وهذا كلام عارٍ عن الصحة.
علم عبد الناصر بطريقة أو بأخرى بقصة التنظيم والباخرة التي لم تصل مصر، وعلم بإمكانية اغتياله عن طريق أحد حراسه وهو إسماعيل الفيومي. سئل سيد عن هذه الأسلحة فأمر بعدم استخدامها إلا في حال الدفاع عن النفس.
وهنا لا بد من وقفة: أنا أظن أن سيد قطب كان مخطئًا وسبب هذا الخطأ أنه لم يشتغل بالتنظيمات ولا أحد من آل قطب اشتغل بالتنظيمات ومعلوماتهم بالتنظيمات كانت شبه معدومة، حتى سيد قطب كانت صلته بالتنظيم توجيها وإشرافًا فقط، فهو لا يعلم بتفاصيل العمل. ولو كنت مكان سيد لقلت هذه أمور لستُ مسؤولاً عنها، لكن الرجل لما دخل السجن عام 1965 وحوكم، قال رأيه وأنه أراد نقل الشباب من حالة حمل السلاح والتسرّع إلى حالة التأني والانضباط ودراسة أمور العقيدة الصحيحة والتصور الإسلامي الذي يمكنهم من فهم الدعوة ومن تشكيل القاعدة الصلبة التي كانوا يؤمنون بها.
أعيد اعتقال سيد في 65 ثم حُكم عليه بالإعدام، فقد كان عبد الناصر مصرًّا على ذلك ومن موسكو في زيارة له أعلن عبد الناصر قراره وذكر اسم سيد قطب، وذكر الإخوان المسلمين. حوكم سيد، تدخل العالم الإسلامي، تدخّل المحامون، توالت برقيات الاستنكار، لكن عبد الناصر سارع بإعدام سيد قطب رحمه الله. وسبق إعدامه مفاوضات مع سيد للتراجع والاعتذار، فكان يقول دائمًا: عن أي شىء أعتذر؟ أعتذر عن دعوتي إلى الله؟ أعتذر عن الكتابة في هذا الشأن؟ أنا لم أرتكب خطأً لأعتذر عنه. وكان يوعد كغيره بالمناصب، لاسيما أن عبد الناصر كان يربطه شىء بسيد، ويظن أنه يمكنه شراؤه وأنه مكسب، وكان عبد الناصر يدرك أن سيد ليس من الإخوان الذين يعرفهم.
أعدم سيد قطب رحمه الله في 1966، بعد أن قال للذي جاء يذكره بالشهادة قبل الإعدام: “حتى أنت جئت تكمل المسرحية، نحن يا أخى نعدم لأجل لا إله إلا الله، وأنت تأكل الخبز بلا إله إلا الله”.
لما أُعدم سيد، كان قد مضى على وجودي في السعودية سنة أعمل مدرّسًا، وذهبت إلى سوريا بعد الانقلاب الأول الذي قاده صلاح شديد وحافظ الأسد على ميشيل عفلق وأمين الحافظ، وقد استدعتني المباحث، وقتها كنت في عطلة الصيف، وبدأوا يحققوا معي عن قيامي بأنشطة وأعمال لا أدري من أين جاءوا بها، ومكثت عندهم نصف نهار، ولما خرجت أخبرني الإخوان أن سيد قد أُعدم، وكان لإعدامه أثر كبير في العالم الإسلامي، وقد تحرّك العالم الإسلامي يومئذ ما لم يتحرّك لشىء آخر.
كان الظلال وكتب سيد قد انتشرت انتشارًا كبيرًا في العالم الإسلامي وقد تُرجمت إلى لغات أخرى.
لقد حلّت لعنة إعدام سيد رحمه الله على عبد الناصر قائد القومية العربية والزعيم الأوحد، فهزمه الله عام 67 شر هزيمة في أقل من سنة من إعدامه.
كان الإخوان المسلمون يُعاملون معاملةً سيئةً في سجون عبد الناصر، ولا سيما سجن ليمان طره، ومن جملة الأحداث التي حدثت في هذا السجن أنه حدثت بين الإخوان والدولة مشكلة، على إثرها رفض الإخوان الخروج من الزنازين، فأطلق النظام عليهم النار وهم داخل الزنازين. في المقابل كان النظام يعامل بعض الأسرى اليهود معاملة حسنة في سجونه.
بعد إعدام سيد رحمه الله، عاشت الحركة الإسلامية في مصر ركودًا وضعفًا، وصار الإسلام غريبًا، لكن بقيت كتب سيد أهم الكتب الباقية والحيّة في الساحة. ومثل كتاب معالم في الطريق انتشر انتشارًا كبيرًا ووصلنا في 62-63، وكان له اثر عجيب عند الناس.
بعد هزيمة 67 بدأ الناس يستيقظون، لكن الحصول على كتب سيد في هذه المرحلة كان أصعب من الحصول على الحشيش والمخدّرات، لدرجة كان الشباب في مصر يكتبون الظلال بخط اليد، فلقد كان التنظيم الذي بدأ في نهاية الستينات وبداية السبعينات والذي كان خارج السجون يعتمد على الكتب التي كتبها سيد قطب. وكان الإخوان يفتخرون بكتبه رحمه الله.
لكن سيد قطب ابتلي بهؤلاء الشباب الذين كانوا يقولون أنه كان رأس تنظيم عسكري، وهذا لم يكن صحيحًا أبدًا، وعلي عشماوي الذي صار في الطريق واعترف من أول لحظة وكان شاهدًا في السجن.
كذلك نشأت جماعة شكري مصطفى بعد وفاة سيد قطب، وشكري مصطفى له قصة أخرى ولم يكن من طلاب سيد، وليس لسيد صلة به، لكن هذه الجماعة أخذت أفكار سيد وقولبوها بقالب معيّن. ثم جاءت جماعة أخرى كانوا فعلاً من الذين درسوا على سيد، درسوا كتب سيّد وبعضهم عرف سيد في السجن وبعضهم عرف سيد بعدما خرج من السجن، هذه الجماعة اسمها التوقف والتبين، أخذوا كلامًا من الظلال وفسّروه بطريقة أخرى.
إذًا انتعشت هذه الأفكار والأفكار الغالية في ظل الاستبداد والطغيان وفي غياب العلماء العاملين، والعلماء يدرّسون في بيوتهم.
في غياب العلماء العاملين الذين يكوّنون الدعوة، وفي هذه الأجواء تبدّلت المواقف، في هذه الساحة الإسلامية لا يستطيع أي كاتب أن يقول أن كتبه فعلت الأفاعيل في الأمة الإسلامية وأن يزاود على سيد قطب، الجيل السابق عاش على فكر سيد قطب وتراثه، ولكن انتقل بعض الناس من تمجيد وتعظيم سيد إلى التنكر له، ونقد أفكاره، ثم صار التنكر له عالميًّا، وذلك لخطورة أفكار سيد.
في السعودية أيام الملك فيصل كانت الإذاعة السعودية تذيع فقرات من كتاب الظلال، رغم وجود هيئة العلماء وعلى رأسها الشيخ محمد بن إبراهيم وهي هيئة شبه مستقلة ولا يتقدّم عليها أحد، فيما بعد أصبحت هذه الكتب منكرة وأفكار سيد غاليةً، ثم صدرت الكتب التي تهاجم سيد وترميه بكلّ غلو وانحراف وهي كتب لا تستحق الإشارة إليها.
سيد قطب رحمه الله كغيره من العلماء، رجل كان يشتغل في الأدب وقد أبدع في هذا الجانب، وله كتب في ذلك من أهمها كتاب “النقد الأدبي” وهو من أهم مراجع الأدب في البلاد العربية.
بعد تغيّر اتجاه سيد وغضب جمال عبد الناصر عليه، أقصوا كتابه النقد الأدبي.
أتجه سيد إلى الاشتغال بالدعوة، فأنتم أمام رجل عالم ولكنه لم يكن متمكّنًا في جوانب معينة من الشريعة والعقيدة، ولكنه له طريق أخرى، لكن كانت له صلة بالعلوم الإسلامية، فنشأته وحفظه للقرآن، وبيئته، كلّها تدل على صلته بالعلوم الإسلامية.
إن منهج سيد في الظلال منهج طيّب لا غبار عليه بل كان يعتمد فيه على كتب ابن كثير ومحمد بن عبد الوهاب، وكتب ابن تيمية، وفيه أخطاء كما في كتب العلماء من أخطاء، فقد أخطأ سيد عندما أنكر سحر النبي صلى الله عليه وسلم، ومَن مِن العلماء لم يخطىء.
هل كان سيد عقلانيًّا أو عصرانيًّا، هل هو من مدرسة محمد بن عبد الوهاب، هو لم يدرس في مدرسة محمد بن عبد الوهاب. لكن كلّ كتبه ردّ على العقلانية وكان يتصدّى لها، وقد ردّ على محمد عبده وغيره.
فجملة القول أن لسيد قطب رحمه الله أخطاء، ولكن تفسيره من نوادر كتب التفسير، البعض يقول أنه ليس كتاب تفسير، بلى هو كذلك وهو كتاب ميداني، أي أنه عايش ما يكتب، فحديث المترف الذي يعيش في قصره عن المحنة غير حديث الذين يعيش الفتنة في السجن والدنيا معروضة عليه. وكم أتمنى لو أن بيدي مقاطع من تفسير الظلال حتى تدركون أي نوع من التفسير هو، والقليل من العلماء من وصل لهذا المستوى، بل أقول دون مبالغة أن سيد تميّز عن غيره من المفسرين في بعض المواضع، خذ مثلا عندما تكلم عن أصحاب الأخدود، فأنت تشعر أن قلبه هو الذي يتكلم، بل روحه هي التي كانت تفسر. انظر كلامه عندما يقول: ولقد انتصر أصحاب الأخدود انتصارًا يشرف الجنس البشري، ثم يفسّر النصر بأنه في أرفع شأنه وهو انتصار الروح على المادّة، وانتصار العذاب على الفتنة، والألم على الحياة.
لقد هاجم أناس سيد قطب رحمه الله وفي الوقت نفسه كانوا يسرقون عباراته، مثل سليم الهلالي الذي تتبعه بعض أقرانه فوجدوه يهاجم سيد قطب من جهة ويسطو على عباراته من جهة أخرى.
وبمناسبة السرقة، وجدت للعالم الإسلامي شكيب أرسلان عبارة رائعة يقول: أما البحث الفلاني –بحث لشكيب أرسلان- فقد سطى عليه لص من هؤلاء اللصوص. إذن اللصوص يأخذون من سيد عباراته وينسبونها لأنفسهم، وفي اعتقادي أن هذه زوابع تمر وتُنسى، ويبقى هذا الرجل وجهده وعلمه، وتبقى أخطاؤه القليلة في بحر فوائده وحسناته لا قيمة لها، وهذا طبيعي كلنا يقع في الأخطاء. ومن أخطاء آل قطب الغالبة عليهم، رغم أنهم قمم صامدة وشامخة، إذا جلست تتحدّث إليهم سواء محمد أو سيد أو أختهم حميدة، تلاحظ أن قصة سيطرة الصهيونية أو نظرية المؤامرة حاضرة وبارزة في حديثهم وقد تركت سلبيةً لا نوافقهم عليها. الدنيا كلّها في أعينهم مؤامرات وهذه رواسب نتيجة حياة السجون التي عاشوها. لكنها أسرة طيبة ينفردون بأخلاق طيبة تميّزهم عن غيرهم من الناس، وأنا ذكرت طبيعة هذه الأسرة سواء الأستاذ محمد أو أمينة أو حميدة ولسيد كتاب لا نوافقه عليه، كتبه في مرحلة سابقة عن هؤلاء الأربعة اسمه “الأطياف الأربعة”، وأنا ذكرت حميدة وليست أمينة لأن حميدة أكثر تحرّكًا من أختها أمينة.
هذا بعض ما عندي عن سيد قطب، أنا من الناس الذي ترك سيد قطب أثرًا في عقولهم وفي طريقة تفكيرهم، ولكن الحمد لله نحن نعتقد أنه بشر يخطأ ويصيب وهذا بعض ما تعلمناه من المنهج السلفي والاعتقاد السلفي، وهذا ما يميّزنا عن الأحزاب والجماعات وعن الأفكار الأخرى التي تعتقد في زعمائها شىء من العصمة أو عصمة كاملة، كلا هو يخطىء ويصيب وقد نوافقه وقد نخالفه، وأسأل الله أن يجمعنا به في عليين وأن يكتب النفع الكثير بكتبه، وأستغفر الله.
أظن أن الكلام الذي ذكرته عن سيد قطب يكفي، ولكن هناك سؤال قد يرد، ولذا أحببت طرحه ثم الإجابة عليه. هل سيد قطب عالم مثل ابن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب؟
أقول: لا ليس كذلك، لكن بعض الناس يعجزون عن فهم أن العالم قد يكون عالمًا بأمور دون أمور، وهذا موجود منذ القديم. فالشافعي مثلا سبق الحنابلة في علم أصول الفقه وكتب فيه. لكن عندما تعود إلى تراث ابن تيمية وغيره من العلماء فأنت أمام عالم كبير متخصص بجوانب كثيرة من العلم، وتقرأ وأنت مطمئن، ولكن مع وجود عقلك معك والانتباه للعبارة وإدراك أن الرجل غير معصوم. وأنت عندما تقرأ في الظلال تجد نفسك أمام أديب كبير هداه الله إلى الحق، تكلم كلامًا طيبًا ببصيرته.
وأنا أرد على بعض من قصد أن سيد قطب ليس بعالم، يقصد أنه جاهل، وهذا كلام غير صحيح. أي شخص يعيش حياة مثل حياة سيد وفي مصر سيلم بكثير من العلوم الإسلامية حتى ولو كان علمانيًا، فكيف برجل درس في الجامعة وقرأ كثيرًا من العلوم الشرعية.
ولكننا لا نقرنه بعالم مثل ابن باز، فالأمر هنا يختلف، فابن باز عالم ملم بكثير من العلوم الإسلامية فتح الله على بصيرته، درس على المشايخ والعلماء الكبار دراسة منهجية. لكن عند سيد قطب من العلوم ربما لا يتقنها ابن باز وغيره من المشايخ.
والسؤال الثاني: أليس من أخطاء الظلال أنه يربي القارىء على الجرأة على المسلمين، وهو نفس السؤال الذي يشير أن في الظلال غلو، واتهام للمجتمعات الإسلامية بأنها مجتمعات جاهلية أو ما يفهم منه التكفير، وعبارات أخرى اتهم بسببها بالقول بوحدة الوجود؟
هؤلاء الذين يحكمون على سيد قطب أصحاب هوى وأنا أنصح طالب العلم قبل أن يستعجل بقراءة الظلال قراءةً كاملة، ومن المهم أن يحيط القارىء بعقلية الكاتب ومصطلحاته قبل الشروع بالقراءة.
فنحن عندما نقرأ لسيد أو محمد قطب كأننا نتكلم عن شخص واحد، ففي كتاب محمد قطب “هل نحن مسلمون” ، العنوان مخيف، لكن عندما تقرأ المضمون يختلف الأمر، فهو يريد أن يقول أن المجتمع الإسلامي سيطرت عليه عادات وتقاليد أبعدته عن المنهج الإسلامي، عندما يقول سيد قطب: ليس من الإسلام لا يعني بها التكفير والغلو بقدر أنها عبارات أدبية، وهو لا يحكم على المجتمعات الإسلامية بالكفر ولكن أحيانًا بعض العبارات يجب أن ينتبه إليها القارىء، وبعضها تكون شرعية، وبعضها تحتاج إلى تفسير. أما بالنسبة للقول بوحدة الوجود فقد رد العلماء على هذا الكلام ولا داعي للإجابة، فقد ردّ الشيخ ناصر الألباني، وبكر أبوزيد، وآخرون ردودًا طيبة. أما مثل ربيع المدخلي الذي –كما حدثني بعضهم- يحمل القلم وهو يقرأ الكتاب، ورأسًا يشطب على العبارة ويكتب عليها تعليقًا، يجد ما يتوافق معه بعد صفحتين أو ثلاثة ولكنهم قوم مستعجلون دائمًا.
سؤال آخر: ما تعليقكم على ما نُقل عن الأستاذ محمد قطب أن سيّدًا لم يكن راضيًا إلا على ستة أو سبعة كتب، وأنها كما ذكر ذلك في الظلال قد استنفدت أغراضها، وكتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام عليه مآخذ، حاول خصومه أن يضخموها، وهو نفس المأخذ الذي وقع فيه أبو الأعلى المودودي. وهل لسيد ومحمد قطب علاقة بشىء اسمه تنظيم القطبيين.
الجواب: ليس لسيد ولا محمد علاقة بما يسمى القطبية وهم حاولوا التمسح بالأستاذ محمد ولكن قد تجدون البعض منهم كانوا قريبين من الأستاذ محمد وبعضهم طلاب سيد في السجن، ولكن لا يعني أنه راض عن هذه الأفكار، التي نرى الانحراف فيها واضحًا، وهي أفكار لم تنقل عن سيد ولا عن محمد. هذه الأفكار نشأت فيما بعد ولها ظروفها. أنت عندما ترى أن اليهود في السجن يعاملون معاملة حسنة، بينما ترى المعاملة السيئة للعلماء والتعذيب لكبار شيوخ الأزهر، هذا الشاب الذي يرى المنظر ليس أيوب عليه السلام في صبره، سيقع في مثل هذه الأفكار والأخطاء، فالأجواء هي التي صنعت هذا الغلو، ونحن لا نعتذر لهم، فهي أفكار منحرفة، أما سيد ومحمد فلا علاقة لهما بهذه الأفكار، ومن فضل الله على الأستاذ محمد أنه أتى إلى مكة وأنه أشرف على مجموعة من الطلبة هم من خيار العلماء وقد كان لذاك تأثير إيجابي في شخصية الأستاذ محمد وهو لا يخفي هذا الأمر.
أما السائل الذي يتكلم عن موضوع المفاصلة، فهي تختلف، فالأقارب الذين عندهم فساد ومعاصي، فأنت تفاصلهم في المعاصي والذنوب ولا تشاركهم أو تجالسهم فيها، أما أن تقاطعهم وتحرّم إلقاء السلام عليهم فلا. أما المفاصلة القائمة على أساس الكفر والإيمان، فلا أرى شيئًا عليها مما ذكر في الظلال.
السؤال: هل تكلم محمد قطب عن القطبيين؟
الجواب: والله أنا أجزم بأنه ليس منهم واسألوا غيري، وأن أحب الناس إلى قلبه هم طلابه الذين تعرفونهم، فقد أشرف عليهم وهذا لا يخفيه، وقد قال لبعض المتعصبين من الإسلاميين قال هؤلاء الذين تتحدّث عنهم ينتظر على أيديهم خير للأمة الإسلامية، أما أبرز أفكار القطبيين وأبرز زعمائهم فكلّف نفسك يا فضيلة السائل واقرأ كتاب العبد الفقير “التوقف والتبين” فستجد أجوبة شافية على هذا الأمر، وأستغفر الله.