مجددون معاصرون – سيد قطب 2-2
سمعت باسم سيد رحمه الله –كعلم من أعلام الدعوة الإسلامية- في وقت مبكّر من حياتي، وحاولت توثيق علاقتي به عن طريق قراءة كتبه الإسلامية القليلة، وكان أول كتاب اقتنيته “التصوير الفني في القرآن”، فأخذت أقلّب صفحاته ، ثم بدأت بقراءة المقدّمة، ووقفت عند قوله: “إليك يا أماه أرفع هذا الكتاب، لطالما تسمّعت من وراء ]الشيش[ في القرية للقرّاء يرتلون في دارنا القرآن طوال شهر رمضان، وأنا معك أحاول أن ألغو كالأطفال، فتردّني منك إشارة حازمة، وهمسة حاسمة، فأنصت معك إلى الترتيل، وتشرب نفسي موسيقاه، وإن لم أفهم بعد معناه”.
وسألت نفسي: ما هو هذا الشيش؟! لا أعرفه، ولا أعرف من يعرفه، تجاوزت الشيش والمقدمة ومع ذلك فالصعوبات التي تحول بيني وبين فهم الكتاب تضاعفت، فتركته حزينًا على هذه البداية، وظننت أنني غير قادر على فهم أي كتاب من كتبه. غير أن الله أراد أمرًا آخر، فلقد عثرت على كتيبات صغيرة، منها:
(سقط في الأصل وهي المسودة…)
السلطة لأنها تضرّرت بسبب سجن المؤلف الذي كانت قد تعاقدت معه على “الظلال” واشترطت عليه أن يقدّم كلّ شهر جزءًا من الظلال، وأن المحكمة قرّرت أن يستمر الكاتب في الكتابة داخل السجن، فهل كان الطاغوت الذي دمّر الحرث والنسل في أرض الكنانة يخشى من المكتبة أو المحكمة؟!. ليس الأمر كذلك ومواقفه من القضاة والمفكّرين معروفة ومشهورة، ولكن الله سبحانه وتعالى شاء لعبده المجاهد العالم سيد قطب أن يخاطب العالم كلّه وهو في “زنزانة” يحكمها السجّان حمزة البسيوني، وما أدراك ما حمزة البسيوني؟!
كان السجن يحوي آلاف الدعاة إلى الله، ومنهم من كان أقدم من سيد في هذا الميدان، ومنهم من كان في صبره وثباته على المحنة كسيد رحمه الله، لكن سيدًا كان يمتاز عن غيره، فكنت كغيري من آلاف القراء نسأل عنه كلّ قادم من مصر، ونتتبع أخباره، وتتلقّف أيدينا كلّ جديد يكتبه من الظلال وغيره، قرأنا له: (هذا الدين، المستقبل لهذا الدين، في ظلال القرآن: سواءً كانت الأجزاء التي أتمّها وهو في السجن أو الأجزاء التي كتبها وهو خارج السجن، ثم أعاد كتابتها، ونقّحها وهو في السجن. معالم في الطريق، خصائص التصور الإسلامي ومقوّماته، الإسلام ومشكلات الحضارة، نحو مجتمع إسلامي).
قرأت هذه الكتب مرات ومرات، وحفظت مقاطع منها، لأنني وجدت فيها فقهًا جديدًا للأحداث المعاصرة لم أجده عند غيره من الكتّاب المعاصرين، فإذا أردت أن تفهم سر انتشار كتبه، ومبعث إعجاب القرّاء بها فاقرأ قوله: “إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئًا كثيرًا. ولكن بشرط واحد: أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم، أن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم، أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق، ويقدموا دماءهم فداءً لكلمة الحق. إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثًا هامدةً، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء، انتفضت حيّةً وعاشت بين الأحياء، فإلى الذين يجلسون إلى مكاتبهم، ويكدّون قرائحهم، لينتقوا اللفظ الأنيق، وينمّقوا العبارة الرنّانة، ويلفّقوا الأخيلة البرّاقة، إلى هؤلاء أتوجه بالنصيحة، وفّروا عليكم كلّ هذا العناء، فإن ومضة الروح، وإشراق القلب، بالنار المقدّسة، نار الإيمان بالفكرة، هو وحده سبب الحياة، حياة الكلمات وحياة العبارات”.
ويختم مقاله بقوله:
“إنه لا بد من عقيدة. وقوة الكلمة إنما تنبع من أنها ترجمان العقيدة. والعقيدة هي التي يغذيها الناس بحياتهم فتوهب لهم الحياة”.
تأثر الكاتب الكبير الأستاذ محب الدين الخطيب رحمه الله بهذا الأسلوب الرائع فقال وهو يقدّم لكتاب دراسات إسلامية:
“كان من حق هذا السِّفر النفيس أن يتولّى تصديره رجل أصلب مني عودًا، وأشدّ قوةً، وأحدث سنًّا، وأجرأ على مواجهة الناس بالحق. إنه كتاب السنة في أدب القوة، ولا أعرف كتابًا صد في هذه السنة ليتحدّث عن الحق بلسان القوة، كما تحدّث أخي الألمعي البليغ الأستاذ سيد قطب في هذا الكتاب. لذلك، كان من الظلم له أن يكتب مقدمته إنسان معتدل متئد وهو في العقد السابع من حياته”.
فسيد رحمه الله يعتقد بأن المقالات والمؤلفات لا تحرّك قلوب الآخرين إلا إذا كانت تقطر دماءً، وتقتات قلب إنسان حي. أما الكلمات والمقالات التي وُلدت في الأفواه، وقذفت بها الألسنة، ولم تتصل بذلك النبع الإلهي الحي، فقد وُلدت ميتةً، ولم تدفع بالبشرية شبرًا واحدًا إلى الأمام. إن أحدًا لن يتبناها، لأنها وُلدت ميتةً، والناس لا يتبنون الأموات ([1]).
ومعظم الكتّاب يقتاتون من كلماتهم، ويؤثرون الراحة والعافية، وينشدون السلامة والاستقرار، ويفلسفون تملّقهم للظالمين فلسفة مقيتةً ممجوجة، وشتّان شتّان بين الذي يقتات من كلماته ويتاجر بها، ويتخذها سُلّمًا إلى الوزارة وغيرها من شهوات الدنيا، وبين الذي تقتات الكلمات من قلبه ودمه، وهذا الذي يميّز سيدًا عن جمهور الكتّاب والمؤلفين.
تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن خطب الحسناء لم يغله المهر
هذا ولا بد أن يعرف القارىء الكريم أن أستاذنا رحمه الله كتب هذا المقال في عهد الطاغية فاروق، وكان مستقلاً لأن انتسابه لجماعة الإخوان المسلمين كان في عام 1953.
أما الظلال فلقد جعل من دمه مدادًا للكلمات التي دبّجها يراعه، ولهذا فقد نقّح وهو في السجن الأجزاء التي كان كتبها قبل عام 1954، انظر إليه وهو يكتب عن أصحاب الأخدود: “إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة، وإن السلعة الرائجة في سوق الله هي سلعة الإيمان. وإن النصر في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة، وانتصار العقيدة على الألم، وانتصار الإيمان على الفتنة. وفي هذا الحادث انتصرت أرواح المؤمنين على الخوف والألم، وانتصرت على جواذب الأرض والحياة، وانتصرت على الفتنة انتصارًا يشرّف الجنس البشري كلّه في جميع الأعصار، وهذا هو الانتصار. إن الناس جميعًا يموتون، وتختلف الأسباب، ولكن الناس جميعًا لا ينتصرون هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا يتحرّرون هذا التحرّر، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق. إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده لتشارك الناس في الموت، وتنفرد دون الناس في المجد، المجد في الملأ الأعلى، وفي دنيا الناس أيضًا، إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال!
لقدكان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم. ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم؟ وكم كانت البشرية كلّها تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد؟
إنه معنى كريم جدًّا، ومعنى كبير جدًّا، هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض، ربحوه وهم يجدون مسّ النار، فتحترق أجسادهم الفانية، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار!
ثم إن مجال المعركة ليس هو الأرض وحدها، وليس هو الحياة الدنيا وحدها، وشهود المعركة ليسوا هم الناس في جيل من الأجيال. إن الملأ الأعلى يشارك في أحداث الأرض ويشهدها ويشهد عليها، ويزنها بميزان غير ميزان الأرض في جيل من أجيالها، وغير ميزان الأرض في أجيالها جميعًا. والملأ الأعلى يضمّ من الأرواح الكريمة أضعاف أضعاف ما تضم الأرض من الناس. وما من شك أن ثناء الملأ الأعلى وتكريمه أكبر وأرجح في أي ميزان من رأي أهل الأرض وتقديرهم على الإطلاق!
وبعد ذلك كلّه هناك الآخرة. وهي المجال الأصيل الذي يلحق به مجال الأرض، ولا ينفصل عنه، لا في الحقيقة الواقعة، ولا في حسّ المؤمن بهذه الحقيقة.
فالمعركة إذن لم تنته، وخاتمتها الحقيقية لم تجىء بعد، والحكم عليها بالجزء الذي عُرض منها على الأرض حكم غير صحيح، لأنه حكم على الشطر الصغير منها والشطر الزهيد” ([2]).
سجين مظلوم يتعرّض للضرب والقهر والإذلال، ويهدّده الطغاة بمزيد من التنكيل والعذاب بل ويهدّدونه بالموت، ثم يرسلون إليه من يقول له: لو اعتذرت عما مضى، وأعلنت تأييدك للنظام، لأخرجناك من السجن، وجعلناك وزيرًا من أهم الوزراء!!
فيجيبهم: إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة، مناصبكم ..وزاراتكم..قياداتكم.. لا تساوي عندي جناح بعوضة وحسبي أني في وضع يرضاه الله سبحانه وتعالى.
ولا تظنوا أنكم قد انتصرتم عندما وضعتمونا في هذا السجن، ليس هذا هو النصر. إن النصر في أرفع صوره: هو انتصار الروح على المادة، وانتصار العقيدة على الألم، وانتصار الإيمان على الفتنة.. ومعركتنا معكم لم تنته.
ما أتفه الباطل وما أصغره! أين إذاعات العبد الخاسر وصحفه وجنده وأنصاره، لقد عاش شرّ حياة بعد إعدام سيد وإخوانه، وتمرّغ أنفه في التراب، وخاصمه وتنكّر له أصدق أصدقائه، وندّد به وبحكمه بعد هلاكه من كان يسبّح بحمده ويضعه في مراتب الأنبياء.
كان أستاذ هذا الجيل تغمّده الله برحمته وهو يفسّر سورة البروج يحكي لنا قصة أصحاب الأخدود الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم، ويحكي قصته وقصة إخوانه مع العبد الخاسر الذي أهلكه الله، وكان يصف ببراعة نادر وأسلوب رفيع قصة الأخاديد كلّها التي يحفرها الطغاة المفسدون في الأرض لدعاة الإسلام في كلّ مكان وزمان، وهذا هو سر قوله: “ثم إن مجال المعركة ليس هو الأرض وحدها، وليس هو الحياة الدنيا وحدها، وشهود المعركة ليسوا هم الناس في جيل من الأجيال. إن الملأ الأعلى يشارك في أحداث الأرض ويشهدها ويشهد عليها….”.
وليس غريبًا أن يصف لنا ما يفعله الطغاة في جميع العصور، فعقليتهم واحدة، وأساليبهم متشابهة، ومن يفقه سنن الله لا تخطئه الحقيقة.
لم أجد في كتب التفسير –في حدود ما اطلعت عليه- فقهًا كهذا الفقه في تفسير سورة البروج. قال تعالى: (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكلّ شىء عليم)، سورة البقرة، الآية: 288.
وفي المعالم يتحدّث الأستاذ سيد قطب تحت عنوان “جيل قرآني فريد” عن جيل الصحابة رضوان الله عليهم، ويعدّد العوامل التي ميّزتهم عن بقية الأجيال في تاريخنا الإسلامي، فكان مما قاله: “لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كلّ ماضيه في الجاهلية. كان يشعر في اللحظة التي يجىء فيها إلى الإسلام أنه يبدأ عهدًا جديدًا، منفصلاً كلّ الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية. وكان يقف من كلّ ما عهده في جاهليته موقف المستريب الشاك الحذر المتخوّف، الذي يحس أن كلّ هذا رجس لا يصلح للإسلام! وبهذا الإحساس كان يتلقّى هدي الإسلام الجديد، فإذا غلبت نفسه مرّةً، وإذا اجتذبته عاداته مرّةً، وإذا ضعف عن تكاليف الإسلام مرّةً، شعر في الحال بالإثم والخطيئة، وأدرك في قرارة نفسه أنه في حاجة إلى التطهّر مما وقع فيه، وعاد يحاول من جديد أن يكون على وفق الهدي القرآني” ([3]).
شخّص أستاذنا بهذه الأسطر القليلة مشكلة من أهم مشاكلنا الاجتماعية المعاصرة، فعند كثير من الدعاة إلى الله إسلام وجاهلية، ونتج عن هذا المزيج المتناقض آثار سلبية مقيتة، أختار فيما يلي مثالاً واحدًا:
في أميركا ودول أوربا الغربية أعداد غير قليلة من المواطنين فيها كفروا بالحضارة المادية الغربية، ومجّوا عقيدة التثليث، وهجروا الكنيسة، ومن هؤلاء من شرح الله صدره للحق وهداه إلى الإسلام.
خلع هؤلاء المسلمون الجدد على عتبة الإسلام كلّ ماضيهم في الجاهلية، وابتعدوا عن الكفار من أقربائهم وأصدقائهم، وخالفوا المشركين في لباسهم وطعامهم وعاداتهم وزواجهم، ووقفوا من عقائد الغربيين موقف المستريب الشاك الحذر –كما يقول الأستاذ سيد قطب-.
ومن أجل أن يعيشوا حياةً إسلاميةً صحيحةً سكنوا الأحياء التي استوطن بها إخوانهم المسلمون من عرب وعجم. وبعد حين من الزمن رأى هؤلاء المسلمون الجدد أمورًا تكاد لا تُصدّق. رأوا كلّ قوم يتعصّبون لقوميتهم ووطنهم وعاداتهم وتقاليدهم التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، رأوا كتلاً وأحزابًا تتنافس وتتخاصم ومبرر يسوّغ هذا التناحر. فمنهم من قال: الحمد لله الذي منّ عليّ بالإسلام قبل أن أرى هذه النماذج التي لا تمثّل معاني الإسلام الخالدة وقيمه النبيلة، وهؤلاء قليلون. أما جمهورهم فقد تقوقعوا على أنفسهم، وتعصّبوا لأوطانهم وأقوامهم، وخلطوا في سلوكهم ما بين الإسلام والجاهلية.
كلّما شاهدت هذا الواقع المؤلم أدركت لماذا كان سيد يركّز فيما يكتب على هذه المعاني، انظر إلى قوله:
“إن عصبية العشيرة والقبيلة والقوم والجنس واللون والأرض عصبية صغيرة متخلّفة، عصبية جاهلية، عرفتها البشرية في فترات انحطاطها الروحي، وسمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ]فتنة[ بهذا الوصف الذي يفوح منه التقزّز والاشمئزاز”.
ويردّ على ادّعاء اليهود بأنهم شعب الله المختار، فكان مما قاله:
“فأما شعب الله المختار حقًّا فهو الأمة المسلمة التي تستظل براية الله على اختلاف ما بينها من الأجناس والأقوام والألوان والأوطان: (كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله…).
الأمة التي يكون من الرعيل الأول فيها أبو بكر العربي، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وإخوانهم الكرام. والتي تتوالى أجيالها على هذا النسق الرائع، الجنسية فيها هي العقيدة، والوطن فيها هو دار الإسلام، والحاكم فيها هو الله، والدستور فيها هو القرآن.
هذا التصور الرفيع للدار وللجنسية وللقرابة هو الذي ينبغي أن يسيطر على قلوب أصحاب الدعوة إلى الله، والذي ينبغي أن يكون من الوضوح بحيث لا تختلط به أوشاج التصورات الجاهلية الدخيلة، ولا تتسرّب إليه صور الشرك الخفية: الشرك بالأرض، والشرك بالجنس، والشرك بالقوم، والشرك بالنسب، والشرك بالمنافع الصغيرة القريبة تلك التي يجمعها الله سبحانه في آية واحدة فيضعها في كفة، ويضع الإيمان ومقتضياته في كفة أخرى، ويدع للناس الخيار:
(قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم، وأموال اقترفتموها، وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها، أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين)([4])، التوبة: 24.
لن أنسى مشاعري وانفعالاتي وأنا أقرأ لأول مرّة “نقلة بعيدة” من معالم في الطريق. لقد توقفت طويلاً عند تحذيره من أسلوب الدعاة الذين ينادون بديمقراطية الإسلام واشتراكية الإسلام، ومن أسلوب الذين يقدّمون الإسلام للناس وكأنه متّهم يحاولون دفع التهمة عنه.
لقد هزّني قوله: “وحين ندرك حقيقة الإسلام على هذا النحو، فإن هذا الإدراك بطبيعته سيجعلنا نخاطب الناس ونحن نقدّم لهم الإسلام، في ثقة وقوة، وفي عطف كذلك ورحمة، ثقة الذي يستيقن أن ما معه هو الحق، وأن ما عليه الناس هو الباطل، وعطف الذي يرى شقوة البشر وهو يعرف كيف يسعدهم، ورحمة الذي يرى ضلال الناس وهو يعرف أين الهدى الذي ليس بعده هدى!
لن نتدسّس إليهم بالإسلام تدسّسًا، ولن نربّت على شهواتهم وتصوراتهم المنحرفة، سنكون صرحاء معهم غاية الصراحة، هذه الجاهلية التي أنتم فيها نجس والله يريد أن يطهركم، هذه الأوضاع التي أنتم فيها خبث، والله يريد أن يطيّبكم، هذه الحياة التي تحيونها دون، والله يريد أن يرفعكم، هذا الذي أنتم فيه شقوة وبؤس ونكد، والله يريد أن يخفف عنكم ويرحمكم ويسعدكم” .
وقوله: “لم يجىء الإسلام ليربّت على شهوات الناس الممثّلة في تصوراتهم وأنظمتهم وأوضاعهم وعاداتهم وتقاليدهم…سواء منها ما عاصر مجىء الإسلام، أو ما تخوض البشرية فيه الآن، في الشرق أو في الغرب سواء، إنما جاء ليلغي هذا كلّه إلغاءً، وينسخه نسخًا، ويقيم الحياة البشرية على أسسه الخاصة، جاء لينشىء الحياة إنشاءً، لينشىء حياةً تنبثق من انبثاقًا، وترتبط بمحوره ارتباطًا ([5]).
مَن هؤلاء الذين يخاطبهم سيد رحمه الله، من هؤلاء الذين يحذّرهم من هذه الأساليب المعوجّة؟!
للإجابة على هذا السؤال المهم، لا بد أن أعود بذاكرتي إلى تلك المرحلة التاريخية التي سبقت صدور كتاب معالم في الطريق، وأنقل منها بعض التصورات والأساليب:
– لقد كنا نطالب بتعديل المادة الثانية من الدستور لتصبح “الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع”، بدلاً من مصدر من مصادر التشريع، ومن أجل ذلك كانت تعقد الندوات، وتتحرّك المظاهرات وتستنفر الطاقات، وتتوتر الأجواء بين الحكام والمحكومين. وكان من كبار زعمائنا من يقول: المشكلة في القوانين، أما الدستور فينقصه تعديل هذه المادة، مع أن الدستور هو أصل الفساد والانحراف، وهو الذي يبيح الإلحاد والمروق عن الدين باسم ضمان حرية الاعتقاد، ويبيح غير ذلك من الزندقة والعلمانية.
وعندما كان أعداء الإسلام يلحظون هذه الانهزامية فينا، يرفضون مطلبنا، ويحرّكون النصارى وأشباه النصارى من الأحزاب الجاهلية ضدّنا، ثم يتوسّط من يسمونهم عقلاء بين الطرفين، ويطرحون حلاً وسطًا، وينجح هذا الحل، ويظن الإسلاميون أنهم حقّقوا انتصارًا كبيرًا، مع أن تعديل المادة في ظل هذه الأوضاع لن يكون أكثر من حبر على ورق، ويصدق فينا قول الشاعر:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
وأصاب سيد كبد الحقيقة بقوله: “ولأن هذا هو الفارق بين طبيعة منهج الله ومناهج الناس، فإنه يستحيل الالتقاء بينهما في نظام واحد، ويستحيل التوفيق بينهما في وضع واحد، ويستحيل تلفيق منهج نصفه من هنا ونصفه من هناك. وكما أن الله لا يغفر أن يُشرك به، فكذلك هو لا يقبل منهجًا مع منهجه، هذه كتلك سواء بسواء، لأن هذه هي تلك على وجه اليقين” ([6]).
وكان من بيننا بل من كبار أهل الحلّ والعقد فينا الذين يختارون قادة العمل الإسلامي من المحامين والقضاة ]الذين تخرّجوا من كليات الحقوق، والذين يتعاملون في مكاتبهم ومحاكمهم بالقوانين الوضعية، وليس بأحكام الشريعة الإسلامية[، أو من الذين يحملون لقب “دكتوراه” في الطب أو الهندسة أو الكيمياء وغير ذلك، ويقولون في الدفاع عن وجهة نظرهم: هؤلاء الذين اخترناهم من العاملين في الحقل الإسلامي ومن أهل الصلاح والخبرة، ومن جهة أخرى فعلية القوم يحترمون ويقدّرون هؤلاء بسبب مكانتهم الاجتماعية ويقبلون التعامل معهم، ولا يحترمون العلماء وخريجي الجامعات الإسلامية!!
أي والله طالما سمعنا هذه الأقوال تتردّد، وقد وردت في مؤلفات ومذكّرات بعضهم، والذي يعلمه العامة والخاصة من المسلمين، أن إرضاء الله هو المقصود في كلّ عمل من أعمال الفرد أو الجماعة المسلمة، ومن تلبيس إبليس –والاصطلاح لابن الجوزي رحمه الله- أن نقدّم إرادة علية القوم الظالمين المفسدين على إرادة الله سبحانه وتعالى. وهؤلاء القادة من القضاة والمحامين والأطباء والمهندسين إذا افترضنا أنهم في صدقهم وثباتهم ونشاطهم كالعلماء من خريجي الجامعات الإسلامية، فالعلماء أحق من غيرهم بالقيادة بسبب علمهم وقدرتهم على الاجتهاد.
كان من نتائج هذه السياسة، أن العلماء الذين كانوا يعملون في صفوف الجماعات ابتعدوا عنها أو أُبعدوا بسبب اجتهادات الذين لا يملكون أدوات الاجتهاد، ولم يبق لهم دور مهم يؤدونه، وأصبحت الجماعات فقيرة إلى هذه العناصر الخيرة. ولم يقلّل من أهمية المشكلة الأخطاء التي ارتكبها بعضهم وأنهم كانوا يفتقدون العقلية الجماعية التي تتعارض مع القرارات الفردية.
والشاهد هنا اهتمام الجماعات برغبات علية القوم حتى في اختيار قادة الجماعات، وتعارض ذلك مع الأصل الذي من أجله قامت هذه الجماعات.
– وكان من زعمائنا الذين يكتبون عن اشتراكية الإسلام وديمقراطية الإسلام ويقولون لا نريد أن ينفضّ الناس عن الإسلام بسب ضيق أفق بعضنا، والاشتراكية والديمقراطية لغتا العصر، ومطلب جماهيري، وكلّ الذي فعلناه أننا تحدّثنا عن الإسلام وأضفنا إليه الاشتراكية والديمقراطية.
وكان من بيننا الذين يدغدغون عواطف العامة برفع شعاراتهم كالقومية والوطنية، ويمجّدون من يسمّون أبطال الاستقرار والتحرّر، وهم ليسوا أبطالاً، والاستعمار نفسه هو الذي صنع زعامتهم.
– وكان من بيننا الذين يكدّون أذهانهم، ويلوون أعناق النصوص من أجل جمع نقاط التقاء بين الحضارة المعاصرة والاختراعات الحديثة من جهة وبين الإسلام من جهة أخرى، وتفسير طنطاوي جوهري ليس هو الشاهد الوحيد على صحة ما نقول.
– وكان من بيننا الذين بُحّت حناجرهم وهم يردّدون في المظاهرات عام 1958: “وحدتنا وحدة إيمان إنجيل يصافح قرآن”، فلا الوحدة كانت وحدتنا، ولا هي وحدة إيمان ومؤمنين، وكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه –أي القرآن- يؤكّد أن هذه الأناجيل ليست هي الإنجيل الذي نزّله الله على نبيه عيسى عليه السلام.
– ومنا الذين سمّوا الموسوعة الإسلامية في كلية الشريعة “موسوعة جمال عبد الناصر”.
لو أطلقت العنان لقلمي لذكرت أضعاف هذه الأمثلة التي أشرتُ إليها، ولذكرت الأسماء والمصادر ودقائق الأحداث. ومما يقتضي التنويه أن الذين ارتكبوا هذه الأخطاء لهم مكانة طيّبة في قلبي، وقد عملوا في سبيل الله، ونالهم الأذى، فأصابوا في أمور وأخطأوا في أمور أخرى.
ومن ثم فهذه الأخطاء لم تكن قاصرةً على بلد معيّن، ولا مرتبطةً بجماعة معينة دون أخرى، لقد كانت هذه هي أحوال الدعاة والجماعات في المرحلة التي سبقت صدور معالم في الطريق عام 1965.
ومن غير شك فسيد رحمه الله كان يقصدهم، ويحرص على استقامتهم، والرجل كان يعيش واقع عصره، ويعالج مشكلاته.
ووجدَت كتابات سيد قبولاً وإعجابًا عند جمهور الإسلاميين –ومن هؤلاء من كان في القيادة- وآخرون لا يزالون يتخبّطون ويكرّرون أخطاء من سبقهم من الدعاة والجماعات، بل لقد تجاوزوا هذه الأخطاء، وفقدوا الحياء، وأرخوا العنان لشهواتهم.
وقد وجدت نفسي مضطرًا إلى مثل هذا الاستطراد لأن ناسًا من الناس يقلّلون من أهمية ما كتبه سيد رحمه الله، ويزعمون أنه ما جاء بجديد، والفضل في ذلك لمن سبقه من أساتذته ([7])، وهذا قول بلا علم، ولا يستطيع هؤلاء أن يقدّموا أدلةً تثبت صحة قولهم، بل الأدلة تؤكّد أنه رحمه الله كان بعيد النظر، غزير الثقافة والعلم، صادق اللهجة، ونجح في نقل الدعاة نقلةً جديدةً رائعةً، وكان مجدّدًا في هذا الميدان.
وأنا اليوم أقرأ معالم في الطريق كما كنت أقرأه عند صدوره، وأشعر بأن كلمات أستاذ هذا الجيل كانت تقتات من قلبه ودمه.
كان رحمه الله يعلم أنه سوف يدفع ثمن “المعالم” غاليًا، ومع ذلك أصدره، وطمس الله على أعين الجلاّدين الطغاة فسمحوا بإصداره، وعرضوه في إحدى معارضهم الرسمية التي لا يُعرض فيها إلا الكتب المهمة.
وكان يعلم قوة أجهزة التجسّس ونفوذها الواسع، واحتمال اكتشافها للجماعة الناشئة كبير جدًّا، ورغم ذلك لا بد من جماعة ومن عمل جماعي، ولا يجوز لمثله أن يتراجع أو يتردّد.
وكان يعلم أن الاعتذار من الطاغوت سوف ينقذه من حبل المشنقة، لكنه أبى وقال: إن كنت مسجونًا بحق فأنا أرضى حكم الحق، وإن كنت مسجونًا بباطل فأنا أكبر من أسترحم الباطل.
ويقول الشيخ عبد الله عزام بأنه سمع حميدة قطب تقول: “جاءني مدير السجن الحربي حمزة البسيوني يوم 28 أغسطس 1966، وأطلعني على قرار الإعدام الموقّع من عبد الناصر بإعدام سيد قطب ثم قال: إن إعدام الأستاذ سيد خسارة للعالم الإسلامي والعالم أجمع. وأمامنا فرصة لإنقاذ الأستاذ من حبل المشنقة، وهي أن يعتذر على التلفاز فيخفف عنه حكم الإعدام ثم يخرج بعد ستة أشهر من السجن بعفو صحي. هيا فاذهبي إليه لعلنا ننقذه. قالت حميدة: فتوجّهت إليه لأبلّغه الخبر فقلت له: إنهم يقولون إن اعتذرت فسيعفون عنك. فربّت سيد على كتفي قائلاً: عن أي شىء أعتذر يا حميدة؟ عن العمل مع الله؟ والله لو عملت مع أية جهة غير الله لاعتذرت، ولكني لن أعتذر عن العمل مع الله. ثم قال: اطمئني يا حميدة، إن كان العمر قد انتهى فسينفّذ حكم الإعدام، وإن لم يكن العمر قد انتهى فلن ينفّذ حكم الإعدام. ولن يغني الاعتذار شيئًا في تقديم الأجل أو تأخيره” ([8]).
وقال الأستاذ سيد كما جاء في محاضر التحقيق:
“الله يعلم أن شخصي لم يكن في حسابي، وقد احتملت المسؤولية كاملةً منذ أول كلمة وقلت: إنه آن أن يقدّم إنسان مسلم رأسه ثمنًا لإعلان وجود حركة إسلامية وتنظيم غير مصرّح به، قام أصلاً على أساس أنه قاعدة لإقامة النظام الإسلامي، أيًا كانت الوسائل التي سيستخدمها. وهذا في عرف القوانين الأرضية جريمة تستحق الإعدام” ([9]).
وقال في قاعة محكمة أمن الدولة العليا في القاهرة مخاطبًا القتلة الجلاّدين –أعضاء المحكمة وقادتهم-:”إنه مما لاشك فيه أن تدمير حركة الإخوان المسلمين والحركات الإسلامية المماثلة في المنطقة هدف صهيوني وصليبي استعماري. وهو وسيلة من وسائل تدمير العقائد والأخلاق في المنطقة”.
بذل المجرمون محاولات مريرة لينتزعوا من سيد كلمة اعتذار أو استرحام، ولو فعل لتناقلتها أجهزة إعلامهم، وأعادت نشرها وإذاعتها مع التعليق عليها، لكنه أجابهم بشموخ وعزّة: “أنا أكبر من أسترحم الباطل”، وما اكتفى بذلك بل قال فيهم قصيدةً رائعة نختار منها ما يلي:
هبل.. هبل
رمز السخافة والجهالة والدجل
لا تسألن يا صاحبي تلك الجموع
لمن التعبّد والمثوبة …..والخضوع
دعها فما هي غير خرفان القطيع
معبودها صنم يراه ..العم سام
وتكفّل الدولار كي يضفي عليه الاحترام
وسعى القطيع غباوةً …. يا للبطل
هبل.. هبل
رمز الخيانة والعمالة والدجل
صيغت له الأمجاد زائفةً فصدّقها الغبيّ
واستنكر الكذب الصراح وردّه الحرّ الأبيّ
لكنما الأحرار في هذا الزمان هم القليل
فليدخلوا السجن الرهيب ويصبروا الصبر الجميل
وليشهدوا أقسى رواية …فلكلّ طاغية نهاية
ولكلّ مخلوق أجل.. هبل.. هبل
هبل.. هبل
وغير مستبعد أن تكون هذه القصيدة قد وصلت هبل، أو ربما يكون سيد قد أرسلها إليه ليقرأ فيها موقفه من هبل ونظامه، ودور الاستعمار الأمريكي في صنع بطولته الزائفة وأمجاده المزعومة … وإن لم تكن وصلته، فقد وصله ما فيه الكفاية، فلقد كان المجرم السفّاح يتابع التحقيق يومًا بيوم، وكان يسمع ما يجعله يشعر بالصغار والهوان لأن وسائل تعذيبه المحلية والمستوردة –ومن واشنطن وموسكو- عجزت عن اختراق قلب هذا المارد المؤمن، وها هو يناديه: هبل … هبل.
– مضى سيد رحمه الله عزيزًا كريمًا أبيًّا رغم سدود الظالمين وقيودهم ومشانقهم.
– مضى ولم يحْن رأسه للطغاة، ولم يفارقه شعوره بأنه الأعلى إيمانًا وعقيدةً، وأن قاتله في الموقف الدون.
– مضى بعد أن جسّد كلماته إلى واقع عملي ملموس، ولم نر –والحمد لله- أي فارق بين قوله وفعله.
– مضى والأجيال من بعده تردّد أنشودته القوية التي صاغها وهو وراء القضبان:
أخي أنت حرٌ وراء السدود أخي أنت حرٌ بتلك القيود
إذا كنت باللــــــه مستعصما فماذا يضيرك كيـــــد العبيد
أخي ستبيد جيوش الظلام و يشرق في الكون فجر جديد
فأطلق لروحــــك إشراقها ترى الفجـــــر يرمقنا من بعيد
أخي قد أصابك سهم ذليل وغدرا رمــاك ذراعٌ كليـــــل
ستُبترُ يومــا فصبر جميـــــل و لم يَدْمَ بعــــــدُ عرينُ الأسود
أخي قد سرت من يديك الد ….. ماء أبت أن تُشلّ بقيد الإمـاء
سترفعُ قُربـــانها … للسماء مخضبــــة بوســـام الخلـــــــود
ويتوقع نهايته على أيدي الظالمين فيقول:
أخي إن ذرفت علىّ الدموع و بللّت قبري بها في خشـــوع
فأوقد لهم من رفاتي الشموع وسيروا بها نحــو مجــد تليـــد
سأثأرُ ([10]) لكن لربٍ و ديــن و أمضــي على سنتي في يقيــن
فإما إلى النصـــر فوق الأنام وإما إلى اللــــه في الخالديـــــن
ورحمه الله إذ يقول: “إن أفكارنا وكلماتنا تظلّ جثثًا هامدةً، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء، انتفضت حيّةً، وعاشت بين الأحياء”.
كانت كلمات سيد رحمه الله القويّة المؤثّرة، وتوافقها مع حياته العملية التطبيقية تذكّرني بسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذ قال لخصومه من المبتدعين والنمّامين والحكّام الظالمين: “ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوةً، وقتلي شهادةً، وإخراجي سياحةً” ، وقال أيضًا: “المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه….”، ولما أُدخل ووصل إلى القلعة، وصار داخل سورها، نظر إليه وقال: (فضُرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب) ([11]).
وقال ابن القيم: “…وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدّها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرجاف وهو مع ذلك أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرّهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتدّ بنا الخوف وساءت بنا الظنون ، وضاقت بنا الأرض، أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كلّه، فينقلب انشراحًا وقوةً ويقينًا وطمأنينةً ….” ([12]).
رغم التشابه الواضح بين القولين لا أعتقد أن سيدًا قال ما قاله متأثّرًا بشيخ الإسلام ابن تيمية، ولو كان الأمر كذلك لأشار سيد إلى هذه المسألة، وهناك أوجه شبه أخرى بين الرجلين:
– كلاهما شغلته الدعوة والمحن عن الزواج وغيره من متاع الدنيا.
– سيد مات في السجن حيث نفّذ فيه حكم الإعدام، وشيخ الإسلام توفّاه الله في السجن، وكان سجّانوا الثاني أرقَّ أفئدةً وألين عريكةً من سجاني الأول.
– كلاهما شهّر به وافترى عليه علماء السلطان، والفارق بينهما: أن السلطان سخّر علماءه للنيل من سيد، أما ابن تيمية فعلماء السلطان هم الذين أجبروه على سجن شيخ الإسلام، فكان بوسعهم أن يفرضوا رأيهم على السلطان، أما الآخرون فليسوا من أصحاب الرأي ويتحرّكون عندما يأمرهم سيدهم، ولا يقولون قولاً يخالف قوله.
ذكرياتي مع كتب سيد رحمه الله تنكأ جراحي، وتذكّرني بأهلي وإخواني وجامعة دمشق ومعاهدها:
ذكّرتني ما لستُ ناسيه ولربّ ذكرى جدّدت حزَنا
تذكّرني بأهلي وأقربائي لأن منهم من يحب سيدًا كداعية من دعاة الإسلام، ومنهم من يحبه لأننا نحبه، ومن آثار هذا الحب أن الفتيات الصغار إذا أرادوا الإساءة لأترابهم من أقربائنا شتموا سيد قطب وكأنهم بذلك يشتمون أعز رجل في العائلة.
وتذكّرني بوالدتي الأمية رحمها الله التي بكت عليه بكاءً شديدًا يوم إعدامه، وكان العبد الخاسر وزبانيته عندها كالأبالسة، غفر الله لها وأسكنها فسيح جنانه، لقد توفّاها الله وأنا بعيد عنها وأعلم أنها مريضة مرض الموت، وكنت أتمنّى –كما كانت هي تتمنّى- أن أكلّمها عن طريق الهاتف، ولكن لا أستطيع لأن الطغيان الباطني القرمطي أشدّ وأمرّ من الطغيان الناصري.
وتذكّرني بجامعة دمشق التي كانت قلعةً من قلاع الإسلام، كانت الوفود التي يرسلها عبد الناصر أثناء المحادثات التي سبقت الوحدة لابد أن تزور جامعة دمشق ومعاهدها، ولابد أن تُقام لهم الاحتفالات والندوات، وكان أول سؤال يوجّه إليهم، ماذا فعلتم بسيد قطب وإخوانه؟! والمسألة لا تقف عند حدود السؤال وإنما يسمع الزائرون من التنديد بعبد الناصر ونظامه..وكانت المفاجأة تلجم أفواههم عن الكلام لأن سيدًا انتهى أمره عندما وضعوه في ليمان طره.
فما الذي جاء به إلى جامعة دمشق ومعاهدها، وقد قيل لهم بأن بلاد الشام ناصرية، ولا مكان فيها للرجعية –على حدّ زعمهم-، وهاهم يرون ويشاهدون العكس.
فهل كان سيد يدري أن معالمه وظلاله سوف تكون أعمق تأثيرًا من صوت العرب، وإذاعة القاهرة، والأهرام، والأخبار، وغير ذلك من وسائل إعلامهم؟
أتذكّر تلك الأيام، وأتذكر الأخوة الدعاة وما يعانون من ابتلاء وغربة وتنكيل فألجأ إلى الله بالدعاء، أن يفرّج كربنا ويجمع صفّنا، إنه سميع مجيب.
الهوامش:
([1]) انظر كتاب “دراسات إسلامية”، للأستاذ سيد قطب، الطبعة الرابعة، عام 1967، عنوان المقال: قوة الكلمة، ص: 134 ، وكتبه كانت تطبع دون أن يذكر عليها اسم الناشر –ومنها هذا الكتاب- لأنه –أي الناشر- لم يستأذن ويخشى أن يُعرف بين دور النشر بأنه سارق، أو كان يخشى على نفسه ومؤسسته من عملاء الطاغوت في لبنان الذين كانوا يهدّدون كلّ من يدافع عن سيد وإخوان سيد من الدعاة، وكانوا يسيطرون على الأحياء الإسلامية وعلى معظم المساجد والنوادي.
([2]) معالم في الطريق، سيد قطب، 1968، ولم يُذكر على الكتاب اسم دار النشر، ص: 176-177.
([3]) معالم في الطريق، ص: 16.
([4]) معالم في الطريق، صفحات: 145 ، 146 ، 147، فصل: جنسية المسلم عقيدته.
([5]) معالم في الطريق، ص: 151، 153.
([6]) معالم في الطريق، ص: 152.
([7]) سوف أذكر هذه المسألة في موضع آخر من هذا البحث إن شاء الله.
([8]) مجلة المجتمع، تاريخ العدد: 11/11/1986.
([9]) بعض محاضر التحقيق، نشرتها المسلمون وأصدرتها بمتيب سمّته “لماذا أعدموني”.
([10]) يتكلم الشاعر بلسان أخيه الذي سوف يثأر ولكن لله وللدين، وهذا الذي ذكرناه جزء من القصيدة.
([11]) سورة الحديد، الآية: 13.
([12]) الوابل الصيّب، ابن القيم، ص: 48.